كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الحادي والعشرون: أن الرضى يوجب له أن لا يأسى على ما فاته ولا يفرح بما آتاه وذلك من أفضل الإيمان أما عدم أساه على الفائت: فظاهر وأما عدم فرحه بما آتاه: فلأنه يعلم أن المصيبة فيه مكتوبة من قبل حصوله فكيف يفرح بشيء يعلم أن له فيه مصيبة منتظرة ولا بد.
الثاني والعشرون: أن من ملأ قلبه من الرضى بالقدر: ملأ الله صدره غنى وأمنا وقناعة وفرغ قلبه لمحبته والإنابة إليه والتوكل عليه ومن فاته حظه من الرضى: امتلأ قلبه بضد ذلك واشتغل عما فيه سعادته وفلاحه فالرضى يفرغ القلب لله والسخط يفرغ القلب من الله.
الثالث والعشرون: أن الرضى يثمر الشكر الذي هو من أعلى مقامات الإيمان بل هو حقيقة الإيمان والسخط يثمر ضده وهو كفر النعم وربما أثمر له كفر المنعم فإذا رضي العبد عن ربه في جميع الحالات: أوجب له ذلك شكره فيكون من الراضين الشاكرين وإذا فاته الرضى: كان من الساخطين وسلك سبيل الكافرين.
الرابع والعشرون: أن الرضى ينفي عنه آفات الحرص والكلب على الدنيا وذلك رأس كل خطيئة وأصل كل بلية وأساس كل رزية فرضاه عن ربه في جميع الحالات: ينفي عنه مادة هذه الآفات.
الخامس والعشرون: أن الشيطان إنما يظفر بالإنسان غالبا عند السخط والشهوة فهناك يصطاده ولاسيما إذا استحكم سخطه فإنه يقول مالا يرضى الرب ويفعل مالا يرضيه وينوي مالا يرضيه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عند موت ابنه إبراهيم: يحزن القلب وتدمع العين ولا نقول إلا ما يرضي الرب فإن موت البنين من العوارض التي توجب للعبد السخط على القدر فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أنه لا يقول في مثل هذا المقام الذي يسخطه أكثر الناس فيتكلمون بما لا يرضي الله ويفعلون مالا يرضيه إلا ما يرضي ربه تبارك وتعالى ولهذا لما مات ابن الفضيل بن عياض رؤي في الجنازة ضاحكا فقيل له: أتضحك وقد مات ابنك فقال: إن الله قضى بقضاء فأحببت أن أرضى بقضائه فأنكرت طائفة هذه المقالة على الفضيل وقالوا: رسول الله صلى الله عليه وسلم بكى يوم مات ابنه وأخبر أن: القلب يحزن والعين تدمع وهو في أعلى مقامات الرضى فكيف يعد هذا من مناقب الفضيل والتحقيق: أن قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم اتسع لتكميل جميع المراتب من الرضى عن الله والبكاء رحمة للصبي فكان له مقام الرضى ومقام الرحمة.
ورقة القلب والفضيل لم يتسع قلبه لمقام الرضى ومقام الرحمة فلم يجتمع له الأمران والناس في ذلك على أربع مراتب:
أحدها: من اجتمع له الرضى بالقضاء ورحمة الطفل فدمعت عيناه رحمة والقلب راض.
الثاني: من غيبه الرضى عن الرحمة فلم يتسع للأمرين بل غيبه أحدهما عن الآخر.
الثالث: من غيبته الرحمة والرقة عن الرضى فلم يشهده بل فني عن الرضى.
الرابع: من لا رضى عنده ولا رحمة وإنما يكون حزنه لفوات حظه من الميت وهذا حال أكثر الخلق فلا إحسان ولا رضى عن الرحمن والله المستعان فالأول في أعلى مراتب الرضى والثاني دونه والثالث دون الثاني والرابع هو الساخط.
السادس والعشرون: أن الرضى هو اختيار ما اختاره الله لعبده والسخط كراهة ما اختاره الله له وهذا نوع محادة فلا يتخلص منه إلا بالرضى عن الله في جميع الحالات.
السابع والعشرون: أن الرضى يخرج الهوى من القلب فالراضي هواه تبع لمراد ربه منه أعني المراد الذي يحبه ربه ويرضاه فلا يجتمع الرضى واتباع الهوى في القلب أبدا وإن كان معه شعبة من هذا وشعبة من هذا فهو للغالب عليه منهما.
الثامن والعشرون: أن الرضى عن الله في جميع الحالات يثمر للعبد رضى الله عنه كما تقدم بيانه في الرضى به فإن الجزاء من جنس العمل وفي أثر إسرائيلي أن موسى سأل ربه عز وجل: ما يدنى من رضاه فقال: إن رضاي في رضاك بقضائي.
التاسع والعشرون: أن الرضى بالقضاء أشق شيء على النفس بل هو ذبحها في الحقيقة فإنه مخالفة هواها وطبعها وإرادتها ولا تصير مطمئنة قط حتى ترضى بالقضاء فحينئذ تستحق أن يقال لها: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 27- 30] الثلاثون: أن الراضي متلق أوامر ربه الدينية والقدرية بالانشراح والتسليم وطيب النفس والاستسلام والساخط يتلقاها بضد ذلك إلا ما وافق طبعه وإرادته منها وقد بينا أن الرضى بذلك لا ينفعه ولا يثاب عليه فإنه لم يرض به لكون الله قدره وقضاه وأمر به وإنما رضي به لموافقته هواه وطبعه فهو إنما رضي لنفسه وعن نفسه لا بربه عن ربه.
الحادي والثلاثون: أن المخالفات كلها أصلها من عدم الرضى والطاعات كلها أصلها من الرضى وهذا إنما يعرفه حق المعرفة من عرف صفات نفسه وما يتولد عنها من الطاعات والمعاصي.
الثاني والثلاثون: أن عدم الرضى يفتح باب البدعة والرضى يغلق عنه ذلك الباب ولو تأملت بدع الروافض والنواصب والخوارج لرأيتها ناشئة من عدم الرضى بالحكم الكوني أو الديني أو كليهما.
الثالث والثلاثون: أن الرضى معقد نظام الدين ظاهره وباطنه فإن القضايا لا تخلو من خمسة أنواع: فتنقسم قسمين: دينية وكونية وهي مأمورات ومنهيات ومباحات ونعم ملذة وبلايا مؤلمة.
فإذا استعمل العبد الرضى في ذلك كله فقد أخذ بالحظ الوافر من الإسلام وفاز بالقدح المعلى الرابع والثلاثون: أن الرضى يخلص العبد من مخاصمة الرب تعالى في أحكامه وأقضيته فإن السخط عليه مخاصمة له فيما لم يرض به العبد وأصل مخاصمة إبليس لربه: من عدم رضاه بأقضيته وأحكامه الدينية والكونية فلو رضي لم يمسخ من الحقيقة الملكية إلى الحقيقة الشيطانية الإبليسية الخامس والثلاثون: أن جميع ما في الكون أوجبته مشيئة الله وحكمته وملكه فهو موجب أسمائه وصفاته فمن لم يرض بما رضى به ربه لم يرض بأسمائه وصفاته فلم يرض به ربا.
السادس والثلاثون: أن كل قدر يكرهه العبد ولا يلائمه لا يخلو: إما أن يكون عقوبة على الذنب فهو دواء لمرض لولا تدارك الحكيم إياه بالدواء لترامي به المرض إلى الهلاك أو يكون سببا لنعمة لا تنال إلا بذلك المكروه فالمكروه ينقطع ويتلاشى وما يترتب عليه من النعمة دائم لا ينقطع فإذا شهد العبد هذين الأمرين انفتح له باب الرضى عن ربه في كل ما يقضيه له ويقدره.
السابع والثلاثون: أن حكم الرب تعالى ماض في عبده وقضاؤه عدل فيه كما في الحديث: ماض في حكمك عدل في قضاؤك ومن لم يرض بالعدل فهو من أهل الظلم والجور وقوله: عدل في قضاؤك يعم قضاء الذنب وقضاء أثره وعقوبته فإن الأمرين من قضائه عز وجل وهو أعدل العادلين في قضائه بالذنب وفي قضائه بعقوبته أما عدله في العقوبة: فظاهر وأما عدله في قضائه بالذنب: فلأن الذنب عقوبة على غفلته عن ربه وإعراض قلبه عنه فإنه إذا غفل قلبه عن ربه ووليه ونقص إخلاصه: استحق أن يضرب بهذه العقوبة لأن قلوب الغافلين معدن الذنوب والعقوبات واردة عليها من كل جهة وإلا فمع كمال الإخلاص والذكر والإقبال على الله سبحانه وتعالى وذكره يستحيل صدور الذنب كما قال تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف: 24] فإن قلت: قضاؤه على عبده بإعراضه عنه ونسيانه إياه وعدم إخلاصه: عقوبة على ماذا قلت: هذا طبع النفس وشأنها فهو سبحانه إذا لم يرد الخير بعبده خلي بينه وبين نفسه وطبعه وهواه وذلك يقتضي أثرها من الغفلة والنسيان وعدم الإخلاص واتباع الهوى وهذه الأسباب تقتضي آثارها من الآلام وفوات الخيرات واللذات كاقتضاء سائر الأسباب لمسبباتها وآثارها.
فإن قلت: فهلا خلقه على غير تلك الصفة قلت: هذا سؤال فاسد ومضمونه: هلا خلقه ملكا لا إنسانا فإن قلت: فهلا أعطاه التوفيق الذي يتخلص به من شر نفسه وظلمة طبعه قلت: مضمون هذا السؤال: هلا سوى بين جميع خلقه ولم خلق المتضادات والمختلفات وهذا من أفسد الأسئلة وقد تقدم بيان اقتضاء حكمته وربوبيته وملكه لخلق ذلك.
الثامن والثلاثون: أن عدم الرضى إما أن يكون لفوات ما أخطأه مما يحبه ويريده وإما لإصابة ما يكرهه ويسخطه فإذا تيقن أن ما أخطأه لم يكن ليصيبه وما أصابه لم يكن ليخطئه: فلا فائدة في سخطه بعد ذلك إلا فوات ما ينفعه وحصول ما يضره.
التاسع والثلاثون: أن الرضى من أعمال القلوب نظير الجهاد من أعمال الجوارح: فإن كل واحد منهما ذروة سنام الإيمان قال أبو الدرداء: ذروة سنام الإيمان: الصبر للحكم والرضى بالقدر الأربعون: أن أول معصية عصي الله بها في هذا العالم: إنما نشأت من عدم الرضى فإبليس لم يرض بحكم الله الذي حكم به كونا من تفضيل آدم وتكريمه ولا بحكمه الديني من أمره بالسجود لآدم وآدم لم يرض بما أبيح له من الجنة حتى ضم إليه الأكل من شجرة الحمى ثم ترتبت معاصي الذرية على عدم الصبر وعدم الرضى.
الحادي والأربعون: أن الراضي واقف مع اختيار الله له معرض عن اختياره لنفسه وهذا من قوة معرفته بربه تعالى ومعرفته بنفسه وقد اجتمع وهيب بن الورد وسفيان الثوري ويوسف بن أسباط فقال الثوري: قد كنت أكره موت الفجاءة قبل اليوم وأما اليوم: فوددت أني ميت فقال له يوسف بن أسباط: ولم فقال: لما أتخوف من الفتنة فقال يوسف: لكني لا أكره طول البقاء فقال الثوري: ولم تكره الموت قال: لعلي أصادف يوما أتوب فيه وأعمل صالحا فقيل لوهيب: أي شيء تقول أنت فقال: أنا لا أختار شيئا أحب ذلك إلي أحبه إلى الله فقبل الثوري بين عينيه وقال: روحانية ورب الكعبة فهذا حال عبد قد استوت عنده حالة الحياة والموت وقف مع اختيار الله له منهما وقد كان وهيب رحمه الله له المقام العالى من الرضى وغيره الثاني والأربعون: أن يعلم أن منع الله سبحانه وتعالى لعبده المؤمن المحب عطاء وابتلاءه إياه عافية قال سفيان الثورى: منعه عطاء وذلك: أنه لم يمنع عن بخل ولا عدم وإنما نظر في خير عبده المؤمن فمنعه اختيارا وحسن نظر وهذا كما قال فإنه سبحانه لا يقضي لعبده المؤمن قضاء إلا كان خيرا له ساءه ذلك القضاء أو سره فقضاؤه لعبده المؤمن المنع عطاء وإن كان في صورة المنع ونعمة وإن كانت في صورة محنة وبلاؤه وعافية وإن كان في صورة بلية ولكن لجهل العبد وظلمه لا يعد العطاء والنعمة والعافية إلا ما التذ به في العاجل وكان ملائما لطبعه ولو رزق من المعرفة حظا وافرا لعد المنع نعمة والبلاء رحمة وتلذذ بالبلاء أكثر من لذته بالعافية وتلذذ بالفقر أكثر من لذته.
بالغنى وكان في حال القلة أعظم شكرا من حال الكثرة وهذه كانت حال السلف فالعاقل الراضي: من يعد البلاء عافية والمنع نعمة والفقر غنى وأوحى الله إلى بعض أنبيائه: إذا رأيت الفقر مقبلا فقل: مرحبا بشعار الصالحين وإذا رأيت الغنى مقبلا فقل: ذنب عجلت عقوبته فالراضي: هو الذي يعد نعم الله عليه فيما يكرهه أكثر وأعظم من نعمه عليه فيما يحبه كما قال بعض العارفين: يا ابن آدم نعمة الله عليك فيما تكره أعظم من نعمته عليك فيما تحب وقد قال تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 216] وقد قال بعض العارفين: ارض عن الله في جميع ما يفعله بك فإنه ما منعك إلا ليعطيك ولا ابتلاك إلا ليعافيك ولا أمرضك إلا نيشفيك ولا أماتك إلا ليحييك فإياك أن تفارق الرضى عنه طرفة عين فتسقط من عينه الثالث والأربعون: أن يعلم أنه سبحانه هو الأول قبل كل شيء والآخر بعد كل شيء والمظهر لكل شيء والمالك لكل شيء وهو الذي يخلق ما يشاء ويختار وليس للعبد أن يختار عليه وليس لأحد معه اختيار ولا يشرك في حكمه أحدا والعبد لم يكن شيئا مذكورا فهو سبحانه الذي اختار وجوده واختار أن يكون كما قدره له وقضاه: من عافية وبلاء وغنى وفقر وعز وذل ونباهة وخمول فكما تفرد سبحانه بالخلق تفرد بالاختيار والتدبير وليس للعبد شيء من ذلك فإن الأمر كله لله وقد قال تعالى لنبيه:
{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ} فإذا تيقن العبد أن الأمر كله لله وليس له من الأمر قليل ولا كثير لم يكن له معول بعد ذلك غير الرضى بمواقع الأقدار وما يجري به من ربه الاختيار.
الرابع والأربعون: أن رضى الله عن العبد أكبر من الجنة وما فيها لأن الرضى صفة الله والجنة خلقه قال الله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة: 72] بعد قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 72] وهذا الرضى جزاء على رضاهم عنه في الدنيا ولما كان هذا الجزاء أفضل الجزاء كان سببه أفضل الأعمال.